تم بواسطة / سمر لاشين
هسيسُ الأرواحِ القلقة ..............
- بينما كان الناس من حولي مأخوذين بسحر ما تسمى الحضارة ، يتشرّبون حلاوة رذاذها المغوي، فيمضي الجنون رشيقا في أجسادهم ، وينثر الكسل غباره الثقيل على أرجاء عقولهم ، وتتلوث أرواحهم بعتمة الأضاليل
كنتُ أشعر بتربة روحي عطشى ، متشققة ، لاهبة ، لا تلتفت إلى أي رذاذ ، أو حتى زخات بسيطة مخدرة ، بل تشرئب برغبتها الملحاحة نحو السحابة الممتلئة
فلقد احتقرتُ حضارة القشور والأرقام التي تسير بالتوازي مع البارود والحديد ، والتي تستطيع اختلاق كل الأشياء ، العواصف ، الأمطار ، الرياح ، وحتى البشر ، لكنها عاجزة عن إيجاد شيء ما خالد ، لأنها مجبولة بالزيف ، والخداع ، والمهدئات ، فهي إذن عزاء للجبناء فقط ، لمن يخشون من مجرد محاولة القفز إلى ما وراء الحدود الإنسانية
حضارة مصمّمة لغرائزنا ، ممزقة لأرواحنا ، فأية متعة ترجوها أجسادنا ، ودواخلنا خربة ، تعتاش على فتات متعٍ وأمانٍ تنزلق فيها كومضات خجلى ، ما تلبث أن تتلاشى وتنطفئ
فأهرب ملجوما بالرغبة في الخلاص ، وأتجول وحيدا ، بعيدا عن زئير المدن ، وأنغمس بكلّيتي في أحضان الخضرة المترعة بالضوء ، والأجواء المكتنزة بالهدوء ، وهناك كان الطائر الذي بداخلي ينفض عن ريشه انحناءات الألم ، ويفرد جناحيه .
وذات يوم وبينما أنا جالس على أحد المروج المغطاة بالنرجس الأصفر ، وروحي تداعب أعماقي ، كنت أفكر في تلك العلاقة الخفية ، الممنهجة ، المنتظمة ، التي تربط الروح بالطبيعة والتراب ، وكيف أن المسكينة تنتشي ، وتشعر بالأمان حين تكون وسط هذه السهول الشاسعة ، الملفعة بالصمت والأزاهير
لابد أنه يتراءى لها العالم اللامرئي ، عالمها ، حضارتها ، فتأخذها الغبطة والطمأنينة
ووقتها لابد أن القدر أشفق عليّ ، فلقد لامستْ الحقيقة مسامات روحي وأدارت دفة قلبي نحو شاطئ النجاة
***
توقفَ ، وبدا عليه أنه أسِف لتحدثه بهذه الصراحة ، لكن شيئا ما كان يحرقه من الداخل وعليه أن يتابع كي يبرّد أعماقه
من داخل كوخه المتموضع قرب مقبرة القرية ، ومن خلال النافذة كنت أشاهد القبور ، وقورة ، مسالمة غارقة في صمتها الكئيب ، وأسراب الدوري تلهو وتحط على شواهدها ، و في الطرف الآخر ، رأيتُ أجساد القرويين ، وهي تتدحرج في أزقتها ، يلفها التعب والعرق
ولا أدري لماذا رحت أتصور هذا العالم مصيدة ، سجنا كبيرا مهما مشيتَ فيه لن تصل إلى قضبانه، وهذا معناه أن تكون معتقلا دون أن تشعر
وكنت قد لجأت إلى هذا الرجل نصف المجنون أو هكذا يحلو للقرويين تسميته ، حين تولدت لدي فكرة مفادها أنه أعلم من سواه بأحوال الموتى . كونه يجاورهم ، ويطيب له التجوال لساعات طويلة بين قبورهم ، وذلك بعد الذي جرى معي في الآونة الأخيرة ، فلقد عُيّنت معلماً في هذه القرية الشمالية النائية ، وأقمتُ فيها عند عجوز غريب الأطوار ، قليل الكلام ، تروق له محاورتي ، بإيماءات وإيحاءات ثقيلة وكسولة ، مالبث أن مات ، ولأن القرية بحاجة إليّ ، وليس هناك من يرث منزله أبقيت فيه
لكن الذي حدث بعدها أن شائعات سرت بين سكان القرية تقول أن أحدهم وبينما هو عائد من المسجد بعد صلاة الفجر قد شاهد شبح العجوز جالسا على قبره ، وأن راعي القرية حلف أعظم الأيمانات أنه رآه يتجول في الحقول الغربية
وفعلت هذه الشائعات فعلها في أوردة القرية ، وتتالى ظهور شبح العجوز ، كثر اللغط ، وراحت الأحكام والآراء تنبثق هنا وهناك ، من أفواه الأهالي الذين كانت عقولهم تترنح تحت عجب ما تسمعه
منهم من قال أنه كان مشعوذا ، وأن القرية بريئة منه ، فلقد كان دخيلا عليها ، ومنهم من قال أنه كان رجلا صالحا ، والقرية ما تزال تنعم ببركته
شغلني الأمر ، و تحول إلى أسئلة من سياط نارية تتزاحم في صدري ، و تزنر قلبي ، فيكتوي نبضه بلظاها ، وتصّاعد إلى عقلي فتحرق تجاويفه بسعيرها
(( أي سر في ظهور شبح رجل ميت ؟ و إن كان ، فأية فائدة ؟ ))
ووقفتُ عاجزاً عن التوليف بين هذه المتناقضات الغامضة ، غير المتجانسة ، كم كنت أتمنى أن يتراءى لي ذلك الشبح ليكفكف قلقي ولو بأبسط الحقائق ، ويمسح عن وجهي غبار الضياع ويوقف رعاف عذاباتي ، لكن دون جدوى
كم كنت أرغب أن يباغت أحلامي عله يبرّد أنفاسي التي تضوعت بالآه الحارة ، وعبارات أخرى تضج بالاستفهامات ، ترسلها شهقة الدهشة التي بدأت تنمو بداخلي وأخذت تضغط على ضلوعي لكنه لم يفعل
وبدأت تنسرب إلى مسارح خيالي صورة العالم بعناصره التي نحاورها بحواسنا الخمسة ، ومعها عناصر أعنف فتكا ، وأكثر رفقا ، تعجز عن إدراكها حواسنا
وكان كبريائي يردعني عن مصارحة القرويين البسطاء بحقيقة الوعكة الروحية التي ألمت بي ، ولذا لجأت إلى هذا الرجل
ـ نعم يا أستاذ ،أنا متأكد أن القدر أشفق علي ، فوضع لي الحقيقة على ذلك المرج الأخضر لأتعثر بها ذات يوم ، وهذا ما حصل
لابد أن سِنةً من النوم أخذتني لحظتها ، فرأيت حلما ، رأيتني قد كبرت ، وهرمت جدا وأنا على فراش الموت ،ومن حولي نساء شاحبات ، متّشحات بالسواد ، منحنيات عليّ يندبنني ، لكني كنت سعيدا .. أتسمعْ... سعيدا
فأنا أوشك أن أعيش تلك اللحظة الرهيبة ، وروحي تقف على حافة قلبي تتأهب للطيران بعيدا، آه أية حلاوة شعرت بها ، وأية لذة كانت تسبق تلك اللحظة ، على عكس ما نتصور ... صدقني
لكن للأسف استيقظت دون أن يكتمل المشهد ، ودون أن أفتح عيني أجبرت نفسي على النوم مجددا
كنت أدرك في تلك الظهيرة أني بين يدي قوة عظيمة ، تهندس الفوضى التي خلفتها سنوات الضياع في أعماقي ، وتمحو الضباب الكثيف الذي يلف مصيري
وسبحتُ بين أمواج النوم ، ابتلعتني قتامة أرجائه مرة أخرى ، وأشرق الحلم من جديد ، لكن هذه المرة رأيت مقبرة هذه القرية التي كنت أعرفها من قبل ، وشاهدت قبري بين هذه القبور ، وكانت جماعة من الفلاحين تحرث في الحقول القريبة ، والنساء يبذرن ، و الجميع فرحون يغنون بأصوات عالية ، فشعرتُ بالحزن يقطّع نياط قلبي
وهناك وعلى ذلك المرج ، يومها أخذت حياتي منحىً جديدا ، وحققت روحي قفزتها ، وتخلّصت من الأثقال العالقة بها ، وبدا الهدف واضحا لى وهو
{{ طالما أن الأشياء كلها فانية ، فالأحرى بالإنسان أن يخدم شيئا ما خالداً..... الرّوح }}
وها أنذا كما ترى أعيش في قلب هذا الصمت الطافح ، لا أخالط القرويين إلا بقدر ، وهم ممتنون لي لأني أحافظ على قبور آبائهم ، وأجدادهم ، وأُعدُّ لهم قبورهم مقابل فتات قليلة ، غير طامع فيهم ، وهذا يسعدهم المساكين
و بين هؤلاء الموتى امتلأت روحي بغبطة نقية .. خالصة ، وتوافقت إيقاعاتها مع هسيسهم
***
مرة أخرى أسف لصراحته ، أغمض عينيه نصف إغماضه ، نظر إلي ثم قال
ـ لا تستمع لما أقول ، أنا لا أعرف عمَّ أتحدث ، إني مجنون ، ألم يخبروك بذلك ؟
ثم لازمته ضحكة ساخرة لوقت طويل
بدأتُ أتضايق منه ، شعرت بأني كنت على حواف الجروف العميقة ، لكن هذا الرجل المنتصرة روحه، والذي فقد بذلك صفاته الإنسانية ، بدلا من أن يبعدني عنها ، قذف بي إلى أعماقها
وقبل أن أغادر مثخنا بالحيرة والضياع ، ابتسم بخبث :
ـ إن روح صديقك العجوز ، سترتقي عما قريب ، ولكنها ستزورك قبل ذلك
ليلتها نمت مبكراً فلقد كان التعب والإرهاق يغزوان كامل جسدي ، ورأيت العجوز في أحلام متواترة متقطعة ، كان يرتدي معطفا أسود ، وهو يركض ، بينما أنا ألاحقه ، وفي الحلم الخامس انتهت المطاردة ، شعرت بروحي منهكة ، وخطواتي عاثرة ، وأفكاري شريدة ، وأن الطريق يتطاول ، والنهاية تتقافز ، وأن عليَّ الاعتراف بأن لا طاقة لي على اللحاق بالعجوز
عندها كفنتُ الرغبة والأمل بالاستسلام ، وتوقفت
التفتَ ، ولما رآني قد خارت قواي عاد إليّ ، انتصب قبالتي ، وامتدتْ قامته ، بدا أضخم من ذي قبل ، واشتعل السحر في عينيه ، وفراديس وجهه بدت أكثر غرابة ، تحولت لحيته البيضاء إلى هالة من نور تضيء وجهه ، ومعطفه ، راح يتراقص مع النسمات الهبوب
غمرنا سكون طافح ، واندس الذهول بين حنايا جوارحي ، أدركت مدى عجزي ، وندمت على مطاردته ، لمعت في عينيه نظرة عميقة ، وتربعت على شفتيه ابتسامة ماكرة ، قال بصوت جهوري حسبته هزيم الرعد عصف بمسمعي
ـ كما الشمس في شروق دائم ، وما دنست أبجدية الغروب يوما حكمتها ، كذلك الروح في صعود دائم إلى السماء ، والجسد في سقوط دائم نحو التراب
ثم ابتسم
- يرتشفُ الجسد من رحيق الروح ، للولوج في دائرة العطاء ، فمن الأجساد من تحول ذلك الرحيق إلى تراب ، ومنها من تحوله إلى جمال ، ومنها من تحوله إلى نور
شعرت بكلماته تضغط على أنفاسي ، حاولت الكلام لكنه صاح
ـ يصرخ قانون النهر في كل الوجوه ( من لايعطي عليه أن لايأخذ )
أرعدت السماء من فوقنا ، ولمعت البروق ، رفع يديه المرتجفتين باتجاه السماء ، وغاصت نظراته بأغوارها اللانهائية ، والريح تلفح سترته الطويلة ، فراحت تتراقص بجنون ، بدا مصلوبا في الهواء ، يطلق كلاما عميق المعاني ، وكأنه يخاطب عوالم أخرى لاتبدو لي ، وتفجرت براكين الدهشة في عيني ، وفاض القلق من أركاني المرتعشة بدأت أصغر وأصغر
أما هو فقد بدأ يكبر ويتعملق ، ووجهه يتوهج ، بينما الأشياء من حولنا تفقد ألوانها ، ثم اختفى ذلك الطريق المتعرج الطويل ، وكذلك الأمداء ، وتلاشت النهاية التي كانت تتقافز أمامنا منذ قليل
كل شيء اختفى سوانا نحن أنا وإياه ، و السماء فوقنا ترعد وتبرق ، صرخ بصوت قاس
ـ أتعلم ماذا تقول مملكة الربيع في نشيدها ؟
وقبل أن أجيب بالنفي أكمل قائلا ونظراته معلقة بشيء ما هناك في الأعلى
ـ تقول :
( لا خير في حبات المطر التي تستجدي موتها من الجذور النديَّة ، ملعونة تلك القطرات ، وإن كانت مطواعة لأهواء السحاب ، ثم تنشد : ( بوركت حبات المطر التي تأبى أن تكون ضحية نزوات السحاب ، فتفتش عن أجواف الحقول المحترقة ، لتعتق سيرتها هناك )
***
وازداد طولا حتى شعرت وكأنه سيختفي في السماء ، أرهفتُ أذنيّ عساني أسمع وسط هذه اللوحة الخرافية صيحة أخرى منه ، لكنه بدأ بحوار مجنون مع أرواح أخرى لا تتراءى لي ، كدتُ ـ ولولا خوفي الشديد الذي قوّض لساني ـ أن أستجدي منه المزيد ، ولو كلمات ، يرطب بها أحشائي ، لكنه راح يختفي في السماء ، خفت أن يتدحرج هناك فوق الرعد والبرق والسحب الكالحة كنجمة قلقة
فسَرت في جسدي عزيمة خفية ، استجمعتُ شتات ذهني وأطلقتُ صرختي
ـ وأنا .. وأنا .. ماذا عني ؟
لم أعلم ماذا قصدت بذلك ، شددتُ قلبي علَّني أسمع جوابه وهو يصعد هرم السماء ، لكنه تسلق التخوم الغيمية واختفى .
....................................................................................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق