اولاً : نصُّ القصيدة :
" لايغرّك ما أرتديه من دفء كل صباح
كي أداري حزني المفضوح
أسترد ملامحي الهاربة
التي غادرتها ذات هزيمة
و لم تتبعني
أتوكأ على عصا الصبر
أهش بها خيبتي
متجاهلة هاجس الزمن
موتي المحتم
انكماش روحي كلما حط يمام القهر
في سحيق غربتي
وحدها ذاكرة الورق
ما فتأت تشي بسر تعاستي "
ثانياً : القراءة :
هل للتعاسة سر ؟ كيف يتصل بالكتابة والورق ؟ كيف يتصل بنور الشمس ودفء الصباح ؟؟ ما علاقته بالغربة ؟ ما علاقته بالجهل والهزيمة والخيبة ؟!!
تقول الشاعرة في فاتحة النص :
" لا يغرّك ما أرتديه من دفء كل صباح
كي أداري حزني المفضوح
أسترد ملامحي الهاربة
التي غادرتها ذات هزيمة
و لم تتبعني "
(لا يغرّك ) : اي لا تنخدع وتصدّق ، إذن فنحن أمام حقيقة ظاهرها نور ودفء ، تتخذ من الصبح والشمس اقنعة ، تتجدد كل يوم ، كل صباح .
أ يها النور الخادع
ايتها الشمس الكاذبة
ايها الدفء المتوهم ؟
ما الذي تخفون ، علام تنطوون ، وماذا تكتمون ؟
ما الذي تريدون مداراته ؟
" (كي اداري حزني المفضوح) ؟
حزني المفضوح : لماذا هذا الاقتران بين الحزن والفضيحة ؟؟ العار والعيب والخزي والشناعة من جهة والشقاء والمحنة والهم والكدر من جهة اخرى ؟؟
(أسترد ملامحي الهاربة ) كيف تجتمع الرجعة والهرب ، العودة والفرار ؟ ولماذا هذا التكثير الذي توحي به صيغة استرد ؟ كيف تصبح العلاقة بينك وبين اوصافك وعلاماتك علاقة تنافر ، انت تريدها وهي تفرّ منك ، انت تطلبها وهي تهرب ؟ ما هي اللعنة التي تتعرّشُ فيك حتى غادرتك ملامحك ؟
( غادرتها ذات هزيمة ، ولم تتبعني )
ذات هزيمة ، أي في إحدى الهزائم ، ولم تتبعني ،
اريد ان اتوقف عند هذه العبارة : لم تتبعني
اليست هي نفسها عبارة : ملامحي الهاربة ؟؟
ما هي تلك الملامح ، عرفنا موطن الانفصال بين الذات وملامحها ، وعرفنا ان تلك الملامح متبرئة من تلك الذات تفر منها وتنفر ، تتملص ، وتتنصل ، كانها لعنة ؟
ما هي تلك الملامح إذن ؟ ولماذا شاهت هذه الذات حتى ما عادت ملائمة لملامحها ؟
(غادرتها ذات هزيمة ) ؟ ما الذي ياخذه المهزوم ، وما الذي يدعه ؟
الهزيمة هي الخسارة ، والفشل ؛ الانكسار والخيبة ؛ الإخفاق والاندحار ؛ التقهقر والخزلان
هذه بضاعة المهزوم .
اما ما يفقده المهزوم ، فهو النصر ، والمجد ؛ الغلبة ، والعز ؛ القوة والقدرة ؛ الفوز والظفر .
لكن حديث العار والخزي لا يرافق الخسارة إلا إذا كانت خيانة ، إلا إذا كانت جبناً ، إلا إذا رافقها الهون والذلة والخسة .
هذه هي اللعنة إذن ، هذا هو السبب الذي يجعل الملامح تهرب وتفر وتنفر ، تشمئز وتتقزز وتقرف
هل لدى الشاعرة فضل بيان عن هذي الحال ، هل لديها تفاصيل اوضح ؟
تقول الشاعرة :
" أتوكأ على عصا الصبر
أهش بها خيبتي
متجاهلة هاجس الزمن
موتي المحتم
انكماش روحي كلما حط يمام القهر
في سحيق غربتي "
هذا الجمع بين الخيبة والصبر ، ثم هذا الاستطراد في رسم الصورة ؛ كأن الخيبة خراف يخبط الصبر لها اوراقه فتأكل وتسمن .
ثم كأن الصبر معتمد هذه الذات الملعونة ، ذات الخيانة والذلة والجبن والخزي ، التي تتصل بالصبر ، بالرضا ، والتحمل ، والاطمئنان والركون ، والتمهل والاستسلام ، والانقياد ، والإذعان .
( متجاهلة هاجس الزمن
موتي المحتم )
لم تقل : هاجسي ، ولكنها قالت : موتي .
ثم لم تكتف بذلك ، بل جعلته مؤكدًا ، محتماً، واجباً ، لازماً .
هاجس الزمن يعني الافكار والحوادث التي تدور وتتردد في خلده .
أي صيرورته بكل ما تحتفظ به وترميه ،
تبقي عليه وتفنيه
تجاهل الزمن ، تجاهل ما يدور في خلده ، اليس هو نفسه الموت المحتم ؟؟
ولكن لماذا قالت متجاهلة ولم تقل جاهلة ، لماذا إظهار عدم المعرفة ، لماذا إهمالها ، وعدم المبالاة بها
من الذي يستهدف المعرفة ؟ من الذي لا يريد للذات ان تستردّ ملامحها في العزة والنصر والكرامة ؟
من الذي تداخله اللعنة ، وتجعله سراً للخزي والضعة والهوان والقرف ؟
( انكماش روحي كلما حط يمام القهر
في سحيق غربتي )
عادت بنا الشاعرة إلى الاستطراد في الصورة ،؛
حط يمام القهر ، هذا الجمع بين الحمام الخفيف السريع ، الملازم للبيوت وبين القهر
كأن القهر يتقافز ويتنقل بين ثنايا المنازل
سحيق غربتي ؛ كأن الغربة من الوطأة والشدة والغلبة بحيث لم تعد ترتبط بمكان دون مكان ، او بوقت دون وقت ، فتفيض وتندري على كل مكان وزمان ، او كأنها شجرة لا تقبل بتربة قريبة من السطح فتمد جذورها وتتغلغل بها اعمق فأعمق
تلك الشاعرة التي تنفر وتعلن الغربة وتمدها بالجذور والأجنحة فتهرب في باطن العالم وفضائه ، معلنةً
"وحدها ذاكرة الورق
ما فتأت تشي بسرّ تعاستي "
لم تقل : ذاكرتي ، قالت : ذاكرة الورق
إذن فهذا الخزي قديم جديد ، يفوح من السطور المحبرة ويزدوج بها
إذن فمن يريد ان يتعرف ويكشف ويرى حقيقة الدفء والنور الذي ندعي ، فليعيد القراءة
إذن فمن يريد ان يتعرف ويكشف ويرى حقيقة الخزي والعار ، فليعيد القراءة
إذن فمن يريد أن يتعرف ويكشف ويرى حقيقة الخيانة والجبن والقرف ، فليعيد القراءة
*************
تم بواسطة / سمر لاشين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق