الأربعاء، 22 مارس 2017

تل مكسور قصة بقلم / مصطفى الحاج حسين   / مجلة تجمع الأدباء والكتاب السوريين والعرب الأحرار / رئيس التحرير محمد أحمد خليفة 



                                                   

       مضى على تعيين الأستاذ "حمدان العمر " ، أكثر

 من ثلاث سنوات ، معلماً وحيداً في قرية " تل

 مكسور " ، دون أن يطلب نقله إلى قريته القريبة ،

 بالرغم من حاجة أبويه العجوزين ، إلى خدماته في

 الأرض التي يتملّكانها ، فهو يرى نفسه كلّ شيء في

 "تل مكسور " ، فإذا انتقل إلى قريته ، ذهبت مكانته

 وهيبته ، ولسوف يضطر أن ينزل من عليائه ، ليعمل

 في الأرض ، بدافع الحياء والواجب أمام الحاح

 والديه .

          لقد أوهم الجميع ـ بمن فيهم المختار ـ " أبو

 قاسم " بأنه رجل مسنود في المحافظة ، بأن أبرز

 لهم بطاقة غريبة ، على أنها بطاقة أمنية ، فانتشر

 صيته حتى شمل القرى المجاورة ، كما اشتهر

 بقسوته وبطشه ، وكثيرا ما كان يبتسم في سره ،

 حين يتذكر خوف الكبار منه قبل الصغار .

         وماكان يغريه في البقاء في " تل مكسور " ، ما

 يلقاه من خدمة واهتمام وتبجيل ، فقد سكن في

 أحسن البيوت ، وأكل أشهى الطعام ، بفضل دعمه

 المزعوم .

          ومن دواعي استمراريته في هذه القرية ،

 مغامراته الجنسية فيها ، فهو يستغل وضعه

 معلماوحيدا ، يستشيره الجميع في كل الأمور ،

 قانون ، سياسة ، زراعة ، وحتى أمور الدين ، وكثيرا

 ما كان يتبجح بمقولة ، " من علمني حرفا ، كنت له

 عبدا "، مشددا بتلذذ عظيم على كلمة " عبد" ، كل

 هذا استخدمه طعما في اصطياد النساء الساذجات ،

 بالإضافة إلى كونه عازبا لم يتجاوز الثلاثين، يعد

 نفسه متميزا بثقافته ، وعاداته ، وملبسه ، ومشربه ،

 ومن هذا المنطلق ، يصر على ارتداء طقمه البني ،

 وقميصه البرتقالي ، وربطة عنقه الحمراء ، في كل

 الأوقات ، وكان يطيل الوقت حين ينظف أسنانه ،

 ليراه أكبر عدد ممكن من الأهالي ، وإلى أن ينبثق

 الدم من لثته الملتهبة .

        إنه يرى في شخصه ملكا ، في هذه القرية

 الغافلة . لكن ما ينغص عيشه هي " خديجة " والدة

 تلميذه " جمعة الخلف " ، أجمل نساء القرية ،

 الأرملة ، والوحيدة ، والتي تستطيع لو شاءت أن

 تتسلل إليه ، أو يتسلل إليها ، فالبيت قريب ، ولكنها

 نفرت من كل المحاولات .

        ذات يوم طرق بابها ، بعد منتصف الليل ، فرجع

 مغسولا ببصقة ، مازال يحس وقعها على وجهه،  مما

 جعله يتنازل ، وبدافع شهوته المتقدة نحوها ،

 ويعرض عليها الزواج ، فتعللت له بولدها ، وبأنها

 نذرت حياتها من أجله ، فأضحت جرحه الكبير ،

 وتحولت شهوته إلى جرح عميق ، انصب على ولدها

 "جمعة " ، فصار يضرب بعد الدلال .. رغم تفوقه ،

 فتنتقل شكواه ودموعه إلى أمه ، التي تشكو أمرها

 وأمر ابنها إلى الله .

        كان الأستاذ "حمدان "  يقف على الكرسي ،

 يتلصص من خلال النافذة ، مراقبا حركة التلاميذ

 في استراحتهم ، فما إن تبدر أية حركة من اللعب

 البريء من الصبي ، حتى يباغت بصوت الأستاذ

 المتجسس ، ويبدأ التحقيق معه ، وفي النهاية تكون

 العقوبة القاسية ، هي الجزاء المنتظر لهذا اليتيم

 المسكين .

        واليوم ... حدث ما يبرر كل حقد "حمدان "

 على تلميذه " جمعة "، وشاهد من خلال النافذة ،

 التلاميذ يلعبون بكرة مصنوعة من الخرق البالية ،

 لأنه حرم عليهم اللعب بالكرة الحقيقية ، التي جمع

 ثمنها منهم ، ولما كان "جمعة " بينهم ، اندفع

 " حمدان "  إلى الباحة الترابية ، وأطلق صفارة

 الإنذار ، فتجمد الدم في عروق الصغار ، اقترب من

 الكرة ، تفحصها جيدا ، ثم صرخ :

        ـ من دس علم المدرسة ، مع هذه الخرق ؟.

          خيم على رؤوسهم صمت رهيب ، وتوجه

 " حمدان " بنظره الحاقد صوب " جمعة " :

        ـ أنت .. أليس كذلك ؟ .. قسما بالله سأسحقك .

وانبعث صوت الطفل ، مبهوتا لهذا الإتهام :

         ـ لست أنا .. يا أستاذ !!

         ـ اخرس يا كلب .. هذا عمل لا يقوم به سواك .

         ـ وحق المصحف يا أستاذ ، أنا لا علاقة لي

 بصنع الكرة .

وعلى الفور ، أمر الأستاذ بعض التلاميذ ، فرفعوا

 قدمي " جمعة " إلى الأعلى ، وانهال عليه بعصاه

 الغليظة ، فانطلق صراخ الطفل ، بريئا ، لينتشر في

 أرجاء القرية المتناثرة البيوت ، فالتم الناس على

 صوت العويل ، وأسرع بعض الصبية ، فأخبروا

 الأرملة .

        تحلق الأهالي رجالا ونساء وأطفال ، وجميعهم

 يسألون :

         ـ ماذا فعل " جمعة "  .. ؟ .

وكان الصغار يتولون الجواب :

         ـ لقد صنع من علم البلاد كرة .

        والأستاذ "حمدان "  منهمك بضرب الصغير ،

 غير عابىء بصراخه وتوسلاته :

        ـ أستاذ .. دخيلك .. أبوس رجلك .. اتركني .

وقبل أن تجد توسلات الصغير ، مكانا في قلب

 الأستاذ ، الذي كان يزهو داخليا ، لأنه مركز لهذه

 الأحداث ، جاءه صوت " خديجة "  ، الذي يميزه عن

 أصوات نساء الأرض :

        ـ لماذا تضرب ولدي هكذا ، يا حضرة الأستاذ ؟!

فزعق "حمدان " بوجهها :

        ـ لأنه مجرم .. مخرب .. خائن .. هل فهكت ؟ .

       اقترب الحاضرون أكثر من المعلم ، المتقطع

 الأنفاس  :

        سأبعثه إلى السجن ، قسما سأبلغ السلطات

 عنه ، هذه جريمة لا يسكت عنها .

صرخت الأم بانفعال شديد :

      ـ يعني ما حصل شيء ، ولد لا يفرق بين العلم ،

 وأية خرقة أخرى .

زمجر المعلم المتلذذ بهذه المشاجرة الكلامية :

          ـ ولد ..؟!! .. لا يعرف قيمة العلم ؟!.. هذا غير

 صحيح ، من منكم ـ وتوجه بكلامه للحاضرين ـ  من

 منكم .. لا يعرف بأن العلم رمز للدولة ؟؟!!..

        اقترب المختار "  أبو قاسم " ، يرجوه :

        ـ يا أستاذ " حمدان " ، هذا ولد .. يجب ألاّ

 تؤاخذه ، على هذه الغلطة .

صاح " حمدان "  :

        حتى أنت يامختار ؟؟؟!!!... والله سأكتب

 تقريرا إلى مختلف الجهات الأمنية .

سأذكر وجهت نظرك هذه يا أبا قاسم : ـ أنا يجب أن

 لا أتناقش معكم ، في هذا الموضوع .. أصلا ليس من

 قيمتي أن أتناقش مع أحدكم ، هذا موضوع خطير ،

 وأنتم لا تفهمون بالسياسة ، سأكتب ... ومن لا

 يعجبه سأذكر اسمه في التقرير ، فأنا لا يجوز لي

 التسامح في هذا الشأن ، وأنا لعلمكم كاتب تقارير

 ممتاز ، ومن لا يصدق فليذهب إلى قائد قطعتي في

 الجيش ، ويسأله عن تقاريري ، كان يضرب المثل

 بها ، أمام رفاقي ، ومن هذه الناحية ... أنا لن أخسر

 شيئا ، سوى كتابة التقرير ، ووضع توقيعي وخاتم

 المدرسة عليه ، ثم تأتي الدوريات .

        ولما أراد المختار أن يتدخل مرة أخرى ، حدجه

 الأستاذ بنظرة ذات معنى ، وكتم بهجته .. بإرباكه ..

 وصرخ :

        ـ أرجوك يا جناب المختار ، لا تتفوه بكلمة

 ستندم عليها ... ومسؤوليتك أن تبلغ عنه بنفسك .

        نشر الخوف ظلاله على الجميع ، وتعثرت

 الكلمات على شفاههم ، مرت لحظات منحوته من

 دمع وظلام ، حار الواقفون ، وطال صمتهم ، فكر

 " أبو عيشة " أن يساند "  حمدان " ، حتى لا يظل

 متعاليا عليه ، لكنه خجل من " خديجة " ، أرملة

 " نايف "  ابن عمه ، التي رآها واقفة بانكسار .

        تردد أصحاب النخوة في مواقفهم ، وتقدم

 " أبو نواف " ، وطبع قبلة على شارب المعلم ،

 وتشجع  " أبو ممدوح " ، فعزم على الجميع ، أن

 يتفضلوا إلى داره ، ليذبح خروفا إكراما للأستاذ ...

 هكذا راح يقسم .

        وانكبت خالة الأرملة العجوز ، على يد

 " حمدان " ، تقبلها ، وتبللها بدموعها .

كثرت التوسلات ، وتعالت الأصوات ... مسترحمة ،

 مستعطفة ، حتى "  خديجة " ... تهدجت كلماتها من

 الفزع .. وهي تتمتم :

        ـ هذا طفل يا أستاذ ... لو كان رجلا ...

ولم تكمل كلامها ، حتى انتفش كالطاووس ، وهو

 يزعق بتلذذ :

        ـ السلطات العليا وحدها ستقرر مصير ابن

 الخائن هذا ..

انصعقت " خديجة "  ، توقعت كل شيء ، إلآ أن يتهم

 زوجها بالخيانة ، وحاولت أن تتمالك ، فلتصمت ...

 عن هذه الإهانة ، فالجميع يعرفون من هو زوجها ،

 المهم الآن ... أن تستعطف هذا الحاقد ، لأن مصير

 ولدها "  جمعة " في خطر ، فابتلعت الإهانة ،

 وضغطت على جرحها ، وقالت :

        ـ سامحك الله يا أستاذ " حمدان " ، لو كنت

 تعرف أي الرجال ، كان "أبو جمعة " ، لما اتهمته

 بالخيانة .

        أدرك "حمدان " نقطة الضعف عند غريمته ،

 فعزم على تمريغ اسم المرحوم :

        ـ لو لم يكن جبانا ، لما أنجب هذا الولد الخائن .

وهنا فقدت " خديجة " رشدها ، لم تعد تحتمل أكثر

 مما سمعت ، فصرخت كمجنونة ، واندفعت بتجاه  

  " حمدان " :
        ـ اخرس ... اخرس ياكلب ، من أنت ، حتى

 تقول عن " أبي جمعة " جبان ؟؟؟!!!!.. متى أصبح

 الشهيد خائنا ؟!.. اذهب فاسأل تربة الجولان ،

 لتعرف من هو " أبو جمعة " ، أنت مجرد نذل ..

 حقير ، حاولت النيل من عرض هذا الشهيد ، الذي لا

 تساوي أنت وتقاريرك فردة حذائه .

        واندفعت نحوه أكثر ، رافعة يدها بقوة ، تريد

 أن تصفعه ، في تلك اللحظة ، عندما كان يتراجع  

 " حمدان " مذعورا كالفأر ، شاهد جميع من كان

 حاضرا ، من أهالي " تل مكسور "  يد " خديجة "

 الطاهرة ، تخفق في سماء القرية المكتنزة بالغيوم ،

 بشموخ وكبرياء ، ترتفع تماما مثل علم البلاد .

                 


*************

تم بواسطة / سمر لاشين


                      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق